فصل: ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتُهُ:

قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ، وَلَا ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ»)، وَلِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْحِلِّ فِي الذَّكَاةِ إلَّا فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الذَّكَاةِ مِنْ سَمَكٍ أَوْ جَرَادٍ وَبِيضِهِ بِأَخْذِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحِلَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَحِلَّ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ وَلَا اقْتِرَابِ التَّسْمِيَةِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ لِلْحِلِّ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِيِّ، أَمَّا إذَا ارْتَدَّ لِغَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ، وَإِنْ ارْتَدَّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا مِلَّةَ لَهُ، وَالنِّكَاحُ وَحِلُّ الذَّبِيحَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْمِلَّةِ.

.صَيْدُ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ الْمُعَلَّمِ وَبَازِيهِ:

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ الْمُعَلَّمِ وَبَازِيهِ، كَمَا يُذْبَحُ بِسِكِّينِهِ)؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآلَةِ أَنْ تَكُونَ جَارِحًا، فَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَوْنِ مَالِكِهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُسْلِمًا، وَالشَّرْطُ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ، وَالْمُسْلِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ إيجَادِ هَذَا الشَّرْطِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ وَقَتَلَ الصَّيْدَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)، كَمَا لَوْ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ إرْسَالِهِ كَانَ فِعْلًا مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ بِالزَّجْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا الْجِنْسِ إلَى وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- لَمْ يَحْرُمْ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَمَّى فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ هُنَا بِالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ.

.صَيْدُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَذَبِيحَتِهِمَا:

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَذَبِيحَتِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَالْمُرَادُ الذَّبَائِحُ) إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ سِوَاهَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ إلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُسْلِمُ يُسَمِّي عَلَيْهِ الْمَسِيحَ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ لَمْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَحَالُ الْكِتَابِيِّ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ: يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَصِيرُ مُرْتَدًّا، وَإِنَّمَا لَا يُؤْكَلُ بِرِدَّتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ، وَقَدْ أَحَلَّ الشَّرْعُ ذَبَائِحَهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُعْتَبَرَةَ بِالصِّفَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحُرْمَةِ بِتَسْمِيَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْكِتَابِيُّ، وَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ (وَقَدْ) رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَإِذَا سَمِعْتُمُوهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ الْمَسِيحِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا.
قَالَ (فَإِنْ تَهَوَّدَ الْمَجُوسِيُّ أَوْ تَنَصَّرَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ)؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ، فَلَا يَجُوزُ إخْبَارُهُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى دَعْوَى اثْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ مُقِرًّا عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ اُعْتُبِرَ بِمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ تَمَجَّسْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا فِي الْأَصْلِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ غُلَامٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ وَهُوَ يَعْقِلُ الذَّبْحَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيَتَغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ الْمُسْلِم وَالْمَجُوسِيُّ فِي الِاصْطِيَادِ وَالذَّبْحِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يَنْصُرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» فَقَدْ جَعَلَ الْعَاقِلَ اتِّفَاقَ الْأَبَوَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ اتِّفَاقُهُمَا فِي التَّمَجُّسِ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَجُوسِيَّةِ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ تَابِعًا لَهُ، كَمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُقَرَّبُ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُبْعَدُ مِنْ الْمَضَارِّ، وَالنَّصْرَانِيَّة إذَا قُوبِلَتْ بِالْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِلْكِتَابِيِّ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَا فَجَعَلْنَا الْوَلَدَ تَابِعًا لِلْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا.

.ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ:

قَالَ: (فَأَمَّا ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُكْرَهُ) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَحِلُّ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ فِي الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يُقِرُّونَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى، فَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ ذَبَائِحُ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّاتِ وَالْكُتُبَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدِي نَظَرٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ لَا يَعْرِفُونَ فِي جُمْلَةِ الصَّابِئِينَ مَنْ يُقِرُّ بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِإِدْرِيسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدَّعُونَ لَهُ النُّبُوَّةَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَيُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الِاسْتِقْبَالِ لَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، كَمَا يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِبْلَةِ فَقَالَ: تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ لَهَا فَأَلْحَقْنَاهُمْ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِكِتْمَانِ الِاعْتِقَادِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ بِإِظْهَارِ الِاعْتِقَادِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا احْتِجَاجُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَوْلَى؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ.
قَالَ: (وَلَا تُؤْكَلُ السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ، فَأَمَّا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ أَوْ نَبَذَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِأَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} قِيلَ: الطَّعَامُ مِنْ السَّمَكِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَيِّتًا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» الحديث، وَفِي حَدِيثِ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا»، وَاعْتَبَرَ السَّمَكَ بِالْجَرَادِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَيَسْتَوِي مَوْتُهُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلْ» وَلَا يُقَالُ هَذَا نَهْيُ إشْفَاقٍ لِمَا قِيلَ: إنَّ الطَّافِيَ يُورِثُ الْبَرَصَ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ السَّمَكِ يُورِثُ الْبَرَصَ الطَّافِي وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الطِّبِّ، وَحُرْمَةُ تَنَاوُلِ الطَّافِي مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلسَّمَّاكِينَ لَا تَبِيعُوا الطَّافِيَ فِي أَسْوَاقِنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَكْلُ الطَّافِي حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلَا يُؤْكَلُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، بِخِلَافِ الْجَرَادِ فَمَوْتُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِسَبَبٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَعَاشِهِ، وَمَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ، وَهَذَا سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ فَوِزَانُهُ لَوْ مَاتَ السَّمَكُ بِسَبَبٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ مِنْ الْآثَارِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
ثُمَّ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ حَلَالٌ الْجِرِّيثُ وَالْمَارِهِيجُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ سِوَى السَّمَكِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَلَهُ فِي الضُّفْدَعِ قَوْلَانِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْبَحْرِ كُلِّهِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُؤْكَلُ جِنْسُهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِ لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَقْيِيدُ السَّمَكِ مِنْ بَيْنِ صَيْدِ الْمَاءِ، وَمَيْتَاتِهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَأَلْقَى الْبَحْرُ لَنَا دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: عَنْتَرَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا وَتَزَوَّدْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ هَلْ بَقِيَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونِي» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ وَسُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُخِّ الضُّفْدَعِ يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضَّفَادِعِ، وَقَالَ: «إنَّهَا خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ»، فَإِنْ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الضُّفْدَعَ مُسْتَخْبَثٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَقِيسَ عَلَيْهِ سَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ، وَمَنْ يَقُولُ: يُؤْكَلُ جَمِيعُ صَيْدِ الْبَحْرِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ: يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ، وَهَذَا تَشَنُّعٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَأْكُولَ مِنْ الْمَائِيِّ السَّمَكُ فَقَطْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ طَرِيًّا وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} الْمَالِحُ الْمُقَدَّدُ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ عَنْبَرُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلسَّمَكِ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ التَّنَاوُلَ لِضَرُورَةِ الْمَجَاعَةِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ أَنَّ مَا مَاتَ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَهُوَ حَلَالٌ كَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَمَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالطَّافِي، فَإِنْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ بَعْضَهَا، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا سَمَكَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا شَيْءٌ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبٍّ؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ، فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ.
وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ، فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ» وَكَذَلِكَ لَوْ انْجَمَدَ الْمَاءُ فَبَقِيَتْ بَيْنَ الْجَمْدِ فَمَاتَتْ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ بِحَرِّ الْمَاءِ أَوْ بَرْدِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تُؤْكَلُ لِوُجُودِ السَّبَبِ لِمَوْتِهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَقْتُلُ السَّمَكَ حَارًّا أَوْ بَارِدًا، (وَرَوَى) هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ فَمَاتَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَبَقِيَ ذَنَبُهُ فِي الْمَاءِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُؤْكَلُ.
قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ، وَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وَأَخَذَهُ، وَقَتَلَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْبَازِي هَذَا أَنْ يَقَعَ عَلَى شَيْءٍ وَيَنْظُرَ إلَى صَيْدٍ لِيَأْتِيَهُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَمِينِ الْفَهْدِ، فَلَا يَحْرُمُ بِهِ صَيْدُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَأَثْخَنَهُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَرَاحًا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ أَهْلِيًّا فَقَدْ عَجَزَ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَنْ الِاسْتِيحَاشِ وَالطَّيَرَانِ فَذَكَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ لَا بِالرَّمْيِ بَلْ الرَّمْيُ فِي مِثْلِهِ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ إثْخَانَهُ إيَّاهُ كَأَخْذِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَثْخَنَهُ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْخَنَهُ، وَإِنْ رَمَى بِالسَّهْمِ الثَّانِي غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا لِلْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا، وَلَكِنْ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَهُ فَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ لَهُ وَالْحِلِّ لَهُ، وَالثَّانِي بِفِعْلِهِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَهُ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَنِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَاتَ بِفِعْلِهِ، وَالنِّصْفَ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ رَمْيَةُ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّ رَمْيَةَ الثَّانِي لَمْ تَخْرُجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا، فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا.
وَإِذَا كَانَ الصَّيْدُ يَتَحَامَلُ وَيَطِيرُ مَعَ مَا أَصَابَهُ مِنْ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ فَرَمَاهُ الْآخِرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا بِفِعْلِهِ، وَالْأَوَّلُ كَالْمُقِرِّ لَهُ، وَالثَّانِي كَالْآخِذِ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ لَا لِمَنْ أَثَارَ (وَإِنْ رَمَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ فَقَتَلَاهُ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا حَلَالٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ وَأَصَابَهُ الرَّمْيَتَانِ جَمِيعًا مَعًا، فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ مُوجِبُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِلْكِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُذَكٍّ لِلصَّيْدِ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ لَهُمَا، وَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَةَ مِنْ الثَّانِي أَصَابَتْهُ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ، وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ بِالشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، أَوْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الصَّيْدِ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَإِحْرَازُ الصَّيْدِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الرَّمْيِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَتَكَسَّرَ الصَّيْدُ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَحِلَّ عِنْدَ زُفَرَ وَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ فَرْخَ صَيْدٍ مِنْ دَارِ رَجُلٍ أَوْ أَرْضِهِ فَهُوَ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ» وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ عَلَى فَرْخِ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَفْرَخَ لِيَتْرُكَهُ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ، بِخِلَافِ النَّحْلِ الْعَسَّالَةِ إذَا عَسَّلَتْ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا أَلْقَتْ ذَلِكَ لِلتَّرْكِ وَالْقَرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ طِينٍ مُجْتَمِعٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مِنْ السَّيْلِ يَكُونُ لَهُ.
قَالَ: (مَا لَمْ يُحْرِزْهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ أَوْ إغْلَاقِ بَابٍ لِيُحْرِزَهُ بِهِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ بِغَيْرِ صَيْدٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ) ثُمَّ الْآخِذُ إنَّمَا أَخَذَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ ثُمَّ أَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّبَكَةِ.
(وَلَوْ تَكَسَّرَ صَيْدٌ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ بَرَاحًا أَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ) لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمِلْكِ إحْرَازٌ لَهُ، وَإِنْ عَجَزَ الصَّيْدُ عَنْ الطَّيَرَانِ بِمَا أَصَابَهُ، وَالْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ.
قَالَ: (وَكُلُّ مَنْ اصْطَادَ سَمَكًا مِنْ نَهْرٍ جَارٍ لِرَجُلٍ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ مَا صَارَ مُحْرِزًا لَهُ بَلْ هُوَ صَيْدٌ فِي نَهْرِهِ فَالْمُحْرِزُ لَهُ مَنْ اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَجَمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ صَيْدِهَا إلَّا بِالِاصْطِيَادِ فَصَاحِبُ الْأَجَمَةِ صَارَ مُحْرِزًا لِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ السَّمَكِ، إنَّمَا الْمُحْرِزُ الْآخِذُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَجَمَةِ احْتَالَ لِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَ الْمَاءَ، وَبَقِيَ السَّمَكُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا بِمَا صَنَعَ فَالسَّمَكُ عَلَى الْيَبَسِ لَا يَكُونُ صَيْدًا، فَإِذَا صَارَ بِفِعْلِهِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ صَيْدٍ فَهُوَ مُحْرِزٌ لَهُ.
قَالَ: (وَإِذَا عَجَزَ الْمُسْلِمُ عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ وَأَعَانَهُ مَجُوسِيٌّ عَلَى مَدِّهِ لَمْ يَحِلَّ الصَّيْدُ) لِاجْتِمَاعِ الْمُوجِبِ لِلْحَظْرِ، وَالْمُوجِبِ لِلْحِلِّ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَجُوسِيٌّ بِيَدِ الْمُسْلِمِ فَذَبَحَ، وَالسِّكِّينُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَرْمِيَهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى فِي الْهَوَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ وَإِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى جَبَلٍ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَفِي الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ، وَهَذَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَهَذَا مُتَرَدٍّ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ التَّرَدِّي قَتَلَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى مَكَانِهِ الَّذِي يَمُوتُ عَلَيْهِ يَعْنِي وَقَعَ عَلَى شَجَرَةٍ ثُمَّ وَقَعَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الْأَرْضِ حَيًّا فَهُوَ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّرَدِّي وَالْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِمَوْتِهِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ وَمَاتَ، وَلَوْ عَلَى السَّطْحِ فَمَاتَ حَلَّ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْتُلُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ مِثْلُ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَضِيبَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَحَدِّ الْآجِرِ وَاللَّبِنَةِ الْقَائِمَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ وَهُوَ فِعْلٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الذَّكَاةِ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: إنْ وَقَعَ عَلَى آجِرَةٍ مَوْضُوعَةٍ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ وَيُؤْكَلُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ بَلْ مُرَادُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ سِوَى الذَّكَاةِ، وَمُرَادُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجِرَةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَفْوٌ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ.
قَالَ: (فَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي سَنَنِهِ فَأَصَابَ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَصَابَهُ وَنَفَذَ إلَى غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ يُذَكِّي لِمَا يُصِيبُهُ فِي سَنَنِهِ، سَوَاءٌ أَصَابَ صَيْدًا أَوْ صَيْدَيْنِ، وَإِنْ عَرَضَ لِلسَّهْمِ رِيحٌ فَرَدَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ.
لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِقُوَّةِ الرَّامِي بَلْ بِقُوَّةِ الرِّيحِ فَهُوَ نَظِيرُ سَهْمٍ مَوْضُوعٍ فِي مَوْضِعٍ حَمَلَهُ الرِّيحُ فَضَرَبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَاتَ، وَفِعْلُ الرِّيحِ لَا يَكُونُ ذَكَاةَ الصَّيْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً حَتَّى إذَا أَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ عَنْ جِهَتِهِ حَلَّ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ يَمْضِي فِي سَنَنِهِ فَمُضِيُّهُ مُضَافٌ إلَى قُوَّةِ الرَّامِي، فَأَمَّا إذَا رَدَّهُ الرِّيحُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ لَا يُحِبُّ مُضِيَّ السَّهْمِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الرِّيحِ لَا إلَى الرَّامِي، وَمَا دَامَ يَمْضِي فِي جِهَتِهِ فَالرِّيحُ يَزِيدُهُ فِي قُوَّتِهِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ إضَافَةِ الْقُوَّةِ إلَى الرَّامِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ، وَإِنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً يَحِلُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضِدٍّ لِلْجِهَةِ الَّتِي قَصَدَهَا الرَّامِي، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا كَانَ يَصْطَادُ فِي يَوْمِ رِيحٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أَوْ شَجَرًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فَرَدَّهُ فَهُوَ وَرَدُّ الرِّيحِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مُضِيَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِصَلَابَةِ الشَّجَرِ وَالْحَائِطِ لَا بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عَنْ وَجْهِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ، وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا كَانَ الرَّامِي بِالسَّهْمِ الثَّانِي مَجُوسِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الِاصْطِيَادَ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الرَّمْيَ إلَى ذَلِكَ السَّهْمِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُ الثَّانِي الِاصْطِيَادَ وَسَمَّى، فَإِنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لَهُ وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمٌ أَوْ يَرُدَّ سَهْمًا آخَرَ فَيُصِيبُهُ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَحِلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الرَّامِي، وَجُرْحُ الْآلَةِ وَالسَّهْمِ الَّذِي رَمَاهُ لِلثَّانِي مَا جَرَحَ الصَّيْدَ، وَاَلَّذِي جَرَحَ الصَّيْدَ مَا رَمَاهُ الثَّانِي، وَلَا كَانَ مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ مَنْ رَمَى بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ قَصَبَةً مَحْدُودَةً مَنْصُوبَةً فِي حَائِطٍ، وَأَصَابَتْ تِلْكَ الْقَصَبَةُ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا فَجَرَحَتْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَهَذَا مِثْلُهُ.
قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ وَالْعَصَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ جَرَحَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرِقْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدْ حَدَّدَهُ وَطَوَّلَهُ كَالسَّهْمِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَخَرَقَهُ بِحَدِّهِ حَلَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَرْقِ وَالْبِضْعِ، فَأَمَّا الْجُرْحُ الَّذِي يَدُقُّ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَخْرِقُ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا يَحْصُلُ تَسْيِيلُ الدَّمِ بِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ، وَالْمَوْقُوذَةُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَالْمُثْقَلُ بِالْحَدِيدِ وَغَيْرُ الْحَدِيدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الصَّيْدَ بِالسِّكِّينِ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ وَجَرَحَهُ يُؤْكَلُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السِّكِّينِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْمِزْرَاقُ كَالسَّهْمِ يَخْرِقُ، وَيَعْمَلُ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ وَإِنْ حَدَّدَ مَرْوَة فَذَبَحَ بِهَا صَيْدًا حَلَّ لِحُصُولِ تَسْيِيلِ الدَّمِ بِحَدِّ الْآلَةِ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَخَذْتُ أَرْنَبَتَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ مُحَدَّدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ لِي أَكْلَهُمَا» قَالَ: (وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ حَلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الصَّيْدُ مِنْ الرَّمْيِ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْخَبَر أَنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ إذْ أَنَّهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَرَمَاهُ إنْسَانٌ حَلَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ نَصِيبًا لَهُ، وَيَخَافُ فَوْتَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ، وَأَمَّا الشَّاةُ إذَا مَدَّتْ فِي الْمِصْرِ فَلَا تَحِلُّ بِالرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا مَدَّتْ خَارِجَ الْمِصْرِ تَحِلُّ بِالرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتُهَا خَارِجَ الْمِصْرِ، فَلِلْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يُكْتَفَى فِيهَا بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الظِّلْفَ وَالْقَرْنَ فَقَتَلَهُ حَلَّ أَيْضًا بِهِ إذَا أَدْمَاهُ، وَوَصَلَتْ الرَّمْيَةُ إلَى اللَّحْمِ)؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ قَدْ حَصَلَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَأَيْنَمَا وُجِئَ مِنْهُ فَأَدْمَاهُ فَهُوَ ذَكَاةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُقُوعُ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالتَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ فَهُوَ وَمَا نَدَّ سَوَاءٌ.
قَالَ: (وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا وَمَاتَ أَكَلَ الصَّيْدَ كُلَّهُ إلَّا مَا بَانَ عَنْهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ مَا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْأَلْيَةِ مِنْ الشَّاةِ وَرُبَّمَا لَا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْعَجُزِ مِنْهَا فَيَأْكُلُونَهُ فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُبَانِ مَقْصُودًا، وَأَصْلُ الشَّاةِ حَيَّةٌ، وَبِدُونِ الذَّكَاةِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَحُكْمُ الذَّكَاةِ اسْتَقَرَّ فِي الصَّيْدِ بَعْدَ مَا مَاتَ، وَهَذَا الْعُضْوُ مُبَانٌ مِنْ حِينَ مَاتَ، فَلَا يَسْرِي حُكْمُ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الذَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ مَقْصُودًا بِالْإِبَانَةِ، كَمَا لَوْ بَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا؛ فَلِهَذَا لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ الْعُضْوُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْهُ أُكِلَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِاتِّصَالِ يُسْرِي حُكْمَ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيَكُونُ حَلَالًا كَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَلَّقَ مِنْهُ بِجَلْدَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ بَانَ مِنْهُ فَلَا يُؤْكَلُ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ اتِّصَالُهُ بِعِلَاجٍ فَهُوَ وَالْمُبَانُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ، فَهَذَا جُرْحٌ وَلَيْسَ بِإِبَانَةٍ فَيُؤْكَلُ كُلُّهُ، وَإِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَثْمَرَ مَا يَكُونُ مِنْ الذَّكَاةِ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَا قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَأَبَانَهُ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ الثُّلُثَانِ اللَّذَانِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ، وَلَا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ، فَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَأَبَانَهُ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ النِّصْفِ إلَى الْعُنُقِ مَذْبَحٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْأَوْدَاجَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِهَذَا حِينَ لَمْ تُقْطَعْ الْأَوْدَاجُ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا الْجُرْحُ مُبَانٌ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ؛ فَلِهَذَا يُؤْكَلُ كُلُّهُ، فَإِنْ أَبَانَ طَائِفَةً مِنْ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَمْ يُؤْكَلْ مَا بَانَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَذْبَحٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَبَانَ جُزْءًا مِنْ الذَّنَبِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفَ أَوْ أَكْثَرَ أُكِلَ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ الْأَوْدَاجُ بِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَكَاةً بِنَفْسِهِ.
قَالَ: (وَلَوْ ضَرَبَ وَسَمَّى وَقَطَعَ ظِلْفَهُ فَإِنْ أَدْمَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْمَاهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الدَّمِ النَّجِسِ لَمْ يَحْصُلْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ بِسَيْفٍ فَأَبَانَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ حِينَ تَرَكَ الْإِحْسَانَ فِي الذَّبْحِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ ذَبَحَ شَاةً فِي الْمَذْبَحِ فَلَمْ يَسِلْ الدَّمُ مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ قَدْ أَكَلَتْ الْعُنَّابَ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» وَقَدْ يَمْتَنِعُ بَعْضُ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لِحَابِسٍ يَحْبِسُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُرْمَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا مِثْلُهُ لَمْ يُبِنْ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الصَّيُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَا لَا يُؤْكَلُ الْيَرْبُوعَ وَالْقُنْفُذَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الضُّفْدَعِ وَالشَّرْطَانِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَكَذَلِكَ جَمَلُ الْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا السَّمَكَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَمَنٌ، وَمَعْنَى هَذَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ، وَالتَّقَوُّمُ بِهِ يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَسَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهَا سِوَى الْأَكْلِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ ثَمَنٌ كَجُلُودِ الْحُمُرِ وَنَحْوِهَا فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْتَفَعٌ بِهِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ.
قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِ النَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ) لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، فَأَمَّا الْعَقْعَقُ وَالسُّودَانِيَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا لَا مِخْلَبَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْغُرَابِ فِيمَا سَبَقَ.
قَالَ: (وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِلْدِ مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنْ ذِي النَّابِ)؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ، وَفِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يُعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْمَلُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَكَذَلِكَ بِالذَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.